أكمل الله تعالى الدين وأتم النعمة حين أنزل قوله:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً)[المائدة:3]..
لكن اكتمال الدين لم يتم بين عشية وضحاها، وإنما اكتمل الدين بعد أن
ظل القرآن ينهمر بخيراته وبركاته نحو ربع قرن من الزمان.. ربع قرن
والنبي صلى الله عليه وسلم يصنع الأمة التي تنهض برسالتها وتؤدي الحقيقة
الكاملة التي زاغت عنها أمم {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى
أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:63].
لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أمة من الناس هي في عين الدهر عجيبة
من عجائبه، وفي تاريخ البشر فلتة من فلتاته، اتباع كامل ورضوخ عجيب
واستجابة كاملة في شؤون الدين، وإبداع مبهر في أمور الدنيا، سلامة عقيدة
مع صفاء قلوب، طهارة نفوس أضاءت مشارق الأرض ومغاربها، بحضارة ذات
طابع فريد، حملت إلى الناس فكرًا حرًا، وخلقًا قويمًا وصراطًا مستقيمًا.
ولكننا نعود ونستدرك مرة أخرى كيف تم هذا الدين وبلغ ما بلغ؟
وما هي العناصر التي بنى عليها هذا الجيل الفريد لنسير عليها، علَّنا
أن نؤدي ما علينا. إذ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح
به أولها، وما لم يكن يومئذ دينًا فليس اليوم دينًا.
ما هي عناصر قيام الأمة؟
لقد كان من أهم عناصر بناء الأمة وقيامها ثلاثة عناصر ذكرها الله في
كتابه أربع مرات.. بدايتها دعوة الخليل وولده إسماعيل بعدما
أتما بناء الكعبة فقالا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً
مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[البقرة:129].
فاستجاب الله لهما، ومَـنَّ على الأمة ببعثه ورسالته:
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[آل عمران:164].
وحمد الله نفسه على هذه المنة والنعمة فقال:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الجمعة:2].
ثم طالب المسلمين بأداء حق النعمة عليهم، والقيام بواجب الشكر عليها:
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}[البقرة:151].
فهي ثلاثة عناصر بالتمام:
أولها: تلاوة الآيات:
وليست التلاوة أن يأتي قراء حسنو الصوت لكي يقرءوا الآيات منغومة
يستمع الناس إليها في المناسبات فيطربوا لموسيقاها ثم ينصرفون.. لا.. إن
التلاوة معناها "كما يقول الغزالي": رسم منهج، وبيان طريق، وإعطاء
صورة كاملة لملامح الإسلام في عقائده وعباداته وأخلاقه وأعماله؛
فمن لم يتعلم عقائد الإسلام ولم يعرف منهجه وعريض قواعده
وأصول منهجه كأنه لم يُتلَى عليه آياته.
وإنما تفلح الأمة عندما تكون على بصيرة من هذا الدين. انظر إلى سلف الأمة
كيف كان الأمر واضحًا عندهم وقد جلاه جعفر بن أبي طالب للنجاشي
تجلية لا لبس فيها: "أيها الملك.. كنا قومًا
أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع
الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.. فكنا على ذلك
حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا
إلى الله وحده لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه
من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن
الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل
مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئًا، وبالصلاة والزكاة والصيام".
وبهذا الوضوح كان فهم الصحابة.. وبمثله أجاب ربعي بن عامر على رستم
قائد الفرس في القادسية حين سأله ما الذي جاء بكم؟ قال: "
الله جاء بنا، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عبادة العباد إلى عبادة رب
العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
فأرسلنا بدينه إلى خلقه، فمن قَبِلَه قَبِلْنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه
دوننا، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر".
وربما يظن ظان أن هذا كان فكر القادة والسادة!!، لا بل كان فكر أمة
وفهم دولة وعلم عموم الناس.. فقد ذكر ابن الأثير في تاريخه عند ذكر
فتح فارس: "بينما كان رستم وجابان يستعدان للقاء سعد في القادسية
لقي رجلاً من العرب.. فسأله ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟
قال: نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا.
قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك؟ قال: من قتل منا يدخل
الجنة، ومن بقي منا أنجزه الله ما وعده.. فنحن على يقين.
قال رستم: قد وضعنا إذاً في أيديكم.
فقال: أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك
من ترى حولك، فإنك لست تجادل الإنس وإنما تجادل القضاء والقدر".
وهذا عمر يوصي سعد بن مالك بعد أن أمَّره على جيش العراق:
"لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الله
لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، وليس بين الله
وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله
سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده
بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه فالزمه" وأوصاه بالصبر.[i]